في سبيل منهج لدراسة الإبداع الصوفي فكريا وفنيا
تستهدف بنية هذا المقال تحديد الآليات التي تمكن الباحث في الإبداع الصوفي ودارس نصوصه من محاولة التحقق أو تحقيق الفرضية النظرية الأدبية الآتية :
في النص الصوفي الإبداعي درجة من "كيمياء الأدبية" عالية الكثافة جعلت هذا النص، على مر مراحل تشكلاته البنيوية والتداولية، يولد خطابا متفردا رؤية وتجربة ولغة.
كل مقاربة تسعى لتحقيق هذه الفرضية أو التحقق منها ينبغي أن تجري من خلال عبور المنجز النصي الصوفي في إطار إضاءة بعدين ، يمثلان طرفين يتجاذبان موقع البؤرة المولدة لإبداعية هذا النص، هما :
بعد الإبلاغ النفعي، حيث يحمل النص الإبداعي الصوفي رسالة تتجاوز نطاق مرجع معناها الذي نشأت في حضنه لتصبح ذات طابع شمولي تعم آثاره كل كائن وممكن إنسانيين .
بعد الإبداع الفني، حيث يجسد هذا النص خصائص رؤية فنية تتسم بالتكامل والعمق والتناغم بين مكوناتها التنظيرية والتظهيرية .
هذا البناء الإشكالي لموضوع أي بحث في الإبداع الصوفي ، وفق هذه الصورة وبهذه الكيفية، طرح جديد لم يسبق تناوله؛ ويجب الإقرار بأنه قد تقدمت ،إلى الوجود في الساحة الأدبية، نماذج من الدراسات الجزئية لهذه الإشكالية ولكنها خضعت لخطاطات مباينة غاب فيها عنصر الموازنة بين البعدين المذكورين،وهي، وإن حققت نسبة من التراكم المعرفي العام بالنص الصوفي، دراسات أحادية المنحى والقصد، في نظري، بالقياس إلى مدى تشعب الخطاب الصوفي وتعقيده، فالتناول المعرفي، داخل هذا التراكم، أغلبه مغرق في الفلسفي والروحي وأقله ينتقي من الفني ما يراه ملازما للفكري وتابعا خاضعا له كالغرض الشعري والرمز دون رؤية شمولية تمكن من وضع تصور كلي للبنية الافتراضية الكامنة التي يصدر عنها الإبداع الصوفي في كل تجلياته الأدبية والفلسفية ويفسر بواسطتها .
إن بين الروحي والفني داخل الإبداع الصوفي ، في كليتيهما ، ضرب من التقاطع والتوازي ، تنكشف صوره من خلال عبور أشكال التعبير الأدبية لدى أهل العرفان ، هذا الكشف يقوم، بصورة منهجية، على التمييز بين التداولي والتخييلي حيث ينجز الإبداع الصوفي صورتين من صور العدول أو الخرق ، بمفهوميهما الأدبيين ، تتضافران داخل الرؤية الفكرية والفنية التي يستند إليها هذا الإبداع عند التجلي في الأشكال .
هذا الإبداع يتجاوز المتداول في تصور العلاقة الثنائية الأحادية البعد:دال / مدلول، بما يتمتع به من حيوية خاصة في توليد الدلالات في التشكيلات الفنية المختلفة واللغوية منها بوجه مخصوص، فهو أشبه بحقل بكر خصب قابل للتنقيب فيه، في كل مرة وفي صور متجددة، عن القيم الروحية والفنية والدينية و الاجتماعية.
أسفرت الدراسات المنجزة حول النص الصوفي عن نوال بعض الشخصيات الصوفية حظا وافرا من حركية تحقيق التأليف ونشره ودراسته، وما تزال أشواط طويلة لم تنجز على درب الاهتمام بهذا التراث، فذلك جهد لا طاقة للأفراد بإنجازه لأنه من عمل المؤسسات.
كل دارس للتصوف يعلم مبلغ الصعوبات الجمة التي تعترض طريق البحث، ويمكن تكثيفها في اثنتين:
تعقيد الرؤية الصوفية للإنسان والعالم، وهو تعقيد ناشئ عن سعة مرجعية الدلالة التي يستند إليها التصوف وتعددها .
صعوبة القراءة المباشرة في المصادر ذات المنحى العرفاني المغرق في التجريد، شعرا ونثرا، بالإضافة إلى وجود ركام كبير، قديم وحديث، من المنجز حول هذا الخطاب أغلبه ينصب على بيان قضايا فلسفية و روحية أو دينية واجتماعية، منه ما أسهم به المستشرقون، على رغم تهافت منطلقاتهم النظرية وانحراف رؤاهم التحليلية إلا في مواطن قليلة، هذا الإسـهام يقف إلى جانب ما أنجزه الدارسون العرب المسلمون باعتباره جزءا من بنية تلقي النص الصوفي عبر التاريخ ، وفي هذه البنية ما لا تدركه الصور من الدلالات يعسر نخلها أو فرز خيوط نسيجها ذهابا وإيابا إلابعد دهر.
تمر سيرورة تحقيق الفرضية أو التحقق منها عبرالمغامرة في رحلتين متوازيتين: الأولى داخل النظريات المتعقلة لظاهرة التصوف، عبر نهوض تصور لها ، مفهوما ومصطلحا، بحثا عن نموذج جامع لأهم آليات تجليها ، والرحلة الثانية عبر النظريات المتعقلة لظاهرة الأدبية باعتبارها بنية جامعة بين بلاغتي التداول والتخييل أو التواصل والفن ، وخلال الطريق بين الرحلتين يتم البحث عن التقاطعات والتباينات داخل بنية النصوص المختارة بعد وضع قواعد البيانات الخاصة بظاهرتي التصوف وخاصية الأدبية ، هذه القواعد ستكون أشبه بالدليل المرشد في فضاءات النصوص الإبداعية، حيث يسهل تحديد السواحل والتخوم ولكن يعسر ضبط اللجج.
تأسيسا عليه يصبح مشروع التحقق أو التحقق ضربا من الحوارية مع النصوص، وجدلا صاعدا ونازلا داخل بنية تشكلها بحثا عن حدود بلاغة الإمتاع والإقناع وفضاءات تمفصلاتهما، مستندين إلى إمكانية قواعد البيانات أو النماذج النظرية المبنية على الكشف المنبثق من دوائر التعبير الكبرى في النص الصوفي الإبداعي : الشعر والنثر الفني والسرد الحكائي.
هذا السفر، بحثا عن التواصلي والفني في الصوفي ، فضاؤه الطبيعي هو النص الإبداعي ، الذي يمثل دوائر التعبير الأدبي الكبرى : الشعر، النثر الفني و الحكي تمثيلا شاملا من حيث يكشف الدرس النقدي عن المتحقق المتجلي ويفتح التساؤل عن الممكن المحتمل. هذا التعدد، في فاعلي وبنى النصوص المنتقاة للإجراء، يضمن توفير سمتين أساسيتين تعدان بتحقيق بعض القيمة المضافة لهذه الدراسة هما :
التعدد في الكم والكيف ، وهو مبدأ أو قاعدة تخضع لها تجربة الذوق والإبداع الصوفيين ، فكل صوفي نموذج خاص ولون متفرد ، وعلى قدر التشابه كان قدر الاختلاف.
السمة الثانية هي الشمولية،لأن الإبداع في التصوف لا يسبر غوره وتكشف هويته إلا عبر تحليل نماذج عديدة ، فلا ينبغي الاكتفاء بالمحدود وتعميم نتائج البحث فيه ، ففي ذلك مدعاة للخروج عن منطق العلم وبالتالي البعد عن ملامسة الحقيقة، فالشمولية تكفل للبحث السفر في أقاصي الظاهرة وزواياها: المستقيمة والحادة والمنحرفة.
وللحديث بقية .